القط الذي تكلم ومناهج التعليم
دخل العروسي إلى قاعة المحاضرات لاهثا يتنفس بصعوبة، ويمسح بمنديله وجهه وجبينه، وتهالك على كرسي المحاضر لحظة يستريح ويسترد أنفاسه والعيون مصوبة إليه. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بقليل وهو موعد الندوة، ولم يكن من طبعه التأخير. قال مخاطبا الجميع: "اسمحوا لي على هذا التأخير"، ثم وقف مستأنفا كلامه مخاطبا التلاميذ من أقسام البكالوريا والسنتين الثانويتين الأولى والثانية العلمية والأدبية المعربة والمزدوجة الذين غصت بهم القاعة: "رأيت اليوم معجزة خارقة لم أر مثلها في حياتي. كنت عند أحد أصدقائي بحي بئر مراد رايس. شاهدت قطّاً يتكلم !نعم قطّاً يتكلم! شيء لا يصدق، ولكنه حدث. رأيته بعينيّ هاتين"، وأشار العروسي إلى عينيه. كان يتكلم بانفعال، ويتوجه تارة إلى تلاميد الصفوف الأولى، وتارة إلى الجالسين في الوسط وإلى الأساتدة والمدير في الصفوف الأخيرة ثم يخاطب الجالسين في الجهة اليمنى، ويلتفت بعدها إلى الجهة اليسرى وهو يردد: "نعم شيء لا يصدق ولكنه حدث". تابع العروسي حديثه: "لم أكن وحدي في منزل هذا الصديق بل كان هناك ثلاثة من أصدقائه غيري، حين ظهر قطّ أمامنا وليلفت انتباهنا قال: "أيها الغافلون انتبهوا !"، نظرنا فلم نجد إلا القط، وبحثنا مرة أخرى عن مصدر الصوت فقال: "أنا الذي أتكلم. وأنا القط.ولولا أننا في آخر الزمان لما تكلمت". بدأنا نفرك عيوننا ونحن لا نصدق، وتابع:"كفر الناس وفجروا، ولا بد أن يعودوا إلى الطريق القويم قبل أن تحل بهم كارثة "، ثم نطق بالشهادتين، وخرج من الغرفة.
سكت العروسي لحظة وهو يتفرس في وجوه التلاميذ ثم سأل بلهجة استعطاف: "هل تصدّقون ما أقول؟ "أجاب التلاميذ بصوت واحد: "نعم نصدّق". سمع من وسط القاعة صوت يقول:" أنا لا أصدّق"وتبعه صوت آخر من جهة اليمين:" وأنا لا أصدّق". طلب العروسي من صاحبيْ الصوتين التقدم إليه، فخرج التلميذان المعنيّان. عرف العروسي أن أحدهما من شعبة البكالوريا المزدوجة، والثاني من الثانية الأدبية المعربة. قال العروسي للتلميذ الأول:" ولكنني رأيت ذلك بنفسي، فهل تكذبني؟" أجاب التلميذ:"معاذ الله يا أستاذ، ولكني لا أصدق إلا ما تراه عيني ". التفت العروسي إلى الثاني بنفاذ صبر، وقال باستنكار:" وأنت أيضا لا تصدقني، وأنا أقول لك رأيت ذلك بعيني هاتين ". أجاب التلميذ: "عذرا يا أستاذ، فأنا لا أقصد تكذيبك، ولكني لو رأيت القط يتحدث بعينيّ هاتين لما صدقت، فأنا أصدق عقلي لا عيني، والحواس قد تخدع، أما العقل فلا."
بدأت همهمة بين التلاميذ، وارتفع صوت بعضهم مستنكرا تكذيبهما للأستاذ. كدت أقوم من موضعي لأوبخ هذين التلميذين على بلادتهما. أليس تكذيب أستاذ مثل العروسي بلادة ووقاحة منقطعة النظير؟ لكن العادة جرت ألا يتدخل الأساتذة في النقاش إلا عقب المحاضرة. وإذا بي أراه يمدد يده إليهما مصافحا وهو يقول :" أهنئكما من كل قلبي، فقد أثلجتما صدري، فأنتما تنظران إلى الأمور بعقليكما، ولا تخدعان بالخرافات والأوهام. أرجو أن يصبح تلاميذنا مثلكما لا يخدعون بالدّجل ولا باستغلال العواطف."
غصت في مقعدي، وفوجئت كما فوجئ بقية التلاميذ، واحتجوا هاتفين بأنهم صدقوه هو ولم يصدقوا الخبر، فأجابهم العروسي: "ألا تذكرون نصيحة العصفور للصياد في حكايات كليلة و دمنة : "لا تصدق ما لا يمكن أن يكون، أن يكون".وأضاف: "ثقوا في عقولكم، ولا تقبلوا ما لا يقبله العقل بأي حال من الأحوال. وأرجو أن تسمحوا لي الآن ببدء محاضرتي. وكان ما رأيتموه مقدمة لها، فأنا لم أر قطّاً في بئر مراد رايس وتأخرت عمدا لأختبر تأثير مناهجنا التربوية في عقول تلاميذنا وقد رأيتم النتيجة".أحسست بالعرق يتصبب من جسمي، وخجلت من نفسي. كيف يلام التلاميذ إذا كان من يعلمهم يصدق بسهولة ما يقال له؟
وملخص المحاضرة التي ألقاها العروسي، أن للمناهج دورا هاما في دفع الجيل على طريق التقدم، أو إبقائه يراوح مكانه. فالمناهج الحالية في معظم المواد تركز على تراكم المعلومات لا هضمها، وعلى الذاكرة لا على التفكير. وأعطى مثالا على ذلك مناهج الأدب في الثانوية التي لا تجد فيها نصوصا تنمي التفكير وتعود التلميذ على الحجاج. صحيح إنها تهتم بترقية العواطف وبالقيم الإنسانية النبيلة. ولكنها تهمل النصوص العقلية الموجودة بكثرة في التراث العربي من ابن المقفع والمعتزلة وابن رشد إلى مفكري عصر النهضة.
وانتقد مناهج التاريخ الانتقائية التي تعتمد على أحادية الفكر، وتمارس الرقابة والحذف على كثير من الحوادث التاريخية لأنها تخالف وجهة النظر الحكومية السياسية والحزبية، وتغفل تحليل الحوادث وإبداء وجهات النظر المختلفة واستخلاص العبرة منها. كما انتقد الأحكام المسبقة التي تروج ضد المفكرين. وبدلا من تزويد التلاميذ بمنهج عقلي لنقد ما يقرؤونه والحكم عليه بأنفسهم، زودناهم بأحكام جاهزة ضد الفكر عربيا كان أم غربيا وحصنا عقولهم ضده فابن المقفع زنديق، وابن رشد ضال منحرف، وماركس وإنجلز وفرويد ودارون وهيغل وسارتر ملحدون. وحتى الذين حاولوا إيقاظ العقل العربي في هذا العصر لم يسلموا من التهم كطه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرّازق وزكي نجيب محمود وغيرهم.
وفيما يقرأ التلاميذ الأوروبيون لمفكريهم وينقدون نظرياتهم مبينين سلبياتها وإيجابياتها بالحجج الواضحة والبراهين المقنعة، يكتفي تلاميذنا بمعرفة أسماء هؤلاء المفكرين ورفض فكرهم دون قراءته، فالتلاميذ الأوروبيون يهضمون العلم ويتمثلونه، أما تلاميذنا فيكدسون المعلومات العلمية تكديسا دون أن يكون لها أثر واضح في حياتهم، مع أن أسلافنا اصطنعوا المناهج العقلية حتى في الدين، فكان محققو أحاديث الرسول الكريم[ص] يرفضون الحديث الذي لا يقبله العقل. وأكد في الختام على ضرورة إعداد مناهج متوازنة تهتم بالعقل وتشجع الفكر النقدي إلى جانب اهتمامها بالجسم والوجدان.
عبد الله خمّار
من رواية "جرس الدّخول إلى الحصّة"